
الأنبياء هم صَفْوَة البَشَر، وهم أكرم الخَلْق على الله تعالى، اصطفاهم الله عز وجل تعالى لتبليغ الناس دعوة لا إله إلا الله، وجعلهم الله تعالى الواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ الشرائع، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}(الأنعام:89)، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}(الأنعام:90). وقد اتفقت الأمة على أن رُسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يكذبون، ولا ينسون، ولا يغفلون. قال القاضي عِياض: "الأنبياء مُنَزَّهون عن النقائص في الخَلْق والخُلُق". قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة". وقال السفارينيّ: "قد أجمعت الأُمَّة على أنَّ ما كان طريقه الإبلاغ، فالأنبياء والرُّسُل معصومون فيه مِنَ الإخبارِ عن شيءٍ منه بخلافِ الواقِع، لا قصدًا، ولا عمدًا، ولا سهوًا، ولا غلطًا". وقال ابن حجر: "وعصمة الأنبِياء على نبيِّنا وعليهم الصلاة والسلام: حِفْظُهم مِنَ النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَّبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة".
عصمة نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم:
أجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ الله له عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة، وأن حياة نبيها صلى الله عليه وسلم كانت أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تُعْرَف له فيها هفوة، ولم تُحْص عليه زلة، ولا سُجلت عليه هفوة في حياته قبل وبعد بعثته، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحُسن الأحدوثة بين الناس.. قال ابن هشام في "السيرة النبوية": "فشبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه مِنْ أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلُقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم مِنَ الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سُمِّيَ في قومه الأمين، لِما جمع الله فيه مِنَ الأمور الصالحة".
ولو أنَّ مَنْ كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ كفار قريش ـ الذي نشأ فيهم وبينهم ـ عَلِم أو رأى له زلة لطاروا بها فرحاً وأشاعوها، فقد كانوا في غاية التربص لتصيد عثراته ـ إن وجدوها ـ، فلما أعياهم البحث ويئسوا مِنَ العثور على شيء مِنْ ذلك، ذهبوا يفترون الكذب والزور عليه، ويرمونه بالسحر تارة، والكهانة أخرى، والجنون حيناً، والشِعْر حيناً آخر، وغير ذلك بما طاب لهم التفوه به مما سجله عليهم القرآن الكريم وحفظته السيرة النبوية المطهرة، ومِنْ ثم بقي جانب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء مِنْ قبله مصوناً بالعصمة الإلهية، والعناية الربانية، التي أحاطت بهم قبل نبوتهم وبعدها، فمنعتهم من الوقوع فيما لا يُحْمد، مما يكون منفراً للناس عن اتباعهم إلى ما يدعونهم إليه مِنَ الدين والأخلاق الفاضلة..
قال الشيخ ابن باز: "أجمع المُسلِمون قاطبةً على أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - ولا سيَّما خاتمِهم مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم - معصومون مِنَ الخطأ فيما يبَلِّغونه عن الله عَزَّ وجَلَّ من أحكامٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(النجم:5:1). فنبيُّنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم معصومٌ في كُلِّ ما يُبَلِّغُ عن اللهِ من الشَّرائعِ قولًا وعملًا وتقريًرا، هذا لا نزاعَ فيه بين أهلِ العِلْم".
وقد خُص نبينا صلى الله عليه وسلم بعصمة بدنه الشريف مِنَ القتل. عن عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه مِنَ القبة، فقال لهم: يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله) رواه الترمذي. وقال ابن كثير في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة:67): "أي بَلِّغ أنتَ رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك". وقال السعدي: "هذا أمر مِنَ الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم، من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية. فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشَّر ويَسَّر، وعَلَّم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله".
وقال القاضي عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس، ولا على لِسانِه بما لم يَقُلْ". وقال الماوردي: "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمتُه مِنْ أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فعَصَمَه منهم"..
فائدة:
الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون مِنَ الخطأ فيما يبلغونه عن ربهم، وإنما يجوز عليهم الخطأ فيما هو مِنْ أمور الدنيا باعتبار بشريتهم، مع تمام عقلهم، وسداد رأيهم، وقوة بصيرتهم، وقد وقع ذلك من بعض الأنبياء ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. عن رافع بن خُديج قال: (قدِمَ نَبِيُّ الله صلى اللَّه عليه وسلم المَدِينَة وهُمْ يَأْبُرُون النَّخْل، يقولون: يُلَقِّحُون النَّخْل، فقال: ما تصْنعون؟ قالوا: كُنَّا نَصْنَعُه، قال: لَعَلَّكُمْ لو لَمْ تَفْعَلُوا كانَ خَيْرًا، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ - أوْ فَنَقَصَتْ - قال: فذكروا ذلكَ له، فقال: إنَّما أَنَا بَشَرٌ، إذَا أَمَرْتُكُمْ بشَيءٍ مِن دِينِكُمْ، فَخُذُوا به، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بشَيءٍ مِن رَأْيِي، فإنَّما أَنَا بَشَر) رواه مسلم. وفى رواية أنس: (أنتم أعلم بأمر دنياكم). وفي الحديث: بَيان الفرق بين ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ مَعايشِ الدُّنيا عَلى سَبيلِ الرَّأي وبينَ ما قاله شَرعًا وحدَّثَ به عن رَبِّ العزَّة سبحانه. قال القاضي عياض: "فقد يعتقد (النبي) في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع"..
وقد استشكل البعض كذلك أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ووضعوا له السم في الشاة، وأن قريشا في غزوة أحد شجوه وكسروا رباعيته ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المِغفر، وسقط في بعض الحفر، ولا إشكال في ذلك، فما أصابه صلوات الله وسلامه عليه مِن الآلام والأذى في سبيل الله إنما هو لرفع درجاته وتعظيم أجره عند الله تعالى، وليتأسَّى به المسلمون من بعده، لكن الله عز وجل عصمه من أعدائه فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الإسلام، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ، فقد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، وقد ضمن الله له العصمة والسلامة مِنَ القتل والأسْر وزوال العقل، وتبليغ الوحي.. وأما عوارض المرض والأذى والابتلاء فلا تُنافي العصمة..
الأنبياء والرُّسُل عليهم الصَّلاة والسَّلام معصومون مِنَ الخطَأِ في تبليغ رسالة الله عز وجل، فلا يحصُل منهم في تبليغِها خَطَأٌ، أو نسيانٌ، أو خيانةٌ، أو كتمانٌ، وهذا الأمر ثابتٌ بالكِتاب والسُّنَّة والإجماع.. وأنبياء الله تعالى يصيبهم ما يصيب الناس من المرض والجوع، ويجوز عليهم الخطأ فيما هو من أمور الدنيا باعتبار بشريتهم، لكنهم معصومون فيما يتعلق بالوحي، والرسالة، والاعتقادات، والتبليغ، والأقوال والأفعال، وقد خُص نبينا صلى الله عليه وسلم بعصمة بدنه الشريف مِنَ القتل.. قال ابن كثير: "ومِنْ عصمة الله عز وجل لرسوله: حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحُسَّادِها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر: هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا. ثم قيَّض الله عز وجل له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة ـ، فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، فكلما همَّ أحَدٌ مِنَ المشركين وأهل الكتاب بسوء، كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه الله منه، ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذِكْرُها"..