
في زمنٍ غلبت عليه القسوة، وتبلدت فيه المشاعر، تأتي الشفقة كنبعٍ رقراق يروي قلوبًا أظمأتها الماديات، ويعيد للإنسان إنسانيته. الشفقة ليست ضعفًا، ولا انكسارًا، بل هي قوة قلبٍ حيّ، وعينٍ تبصر ألم الآخرين، وروحٍ تسمو فوق الأذى والغلظة.
معنى الشفقة
الشفقة في اللغة هي الرقة المقترنة بالرحمة والنصح والخوف على من تشفق عليه، وفي الشرع خُلُقٌ عظيم يدفع الإنسان للعطاء، والمواساة، وكفّ الأذى، والنصح باللين، ومعاملة الناس بالرأفة والرحمة. وهي خلق نبوي، وصفة من صفات عباد الله المتقين.
قال الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128).
ما أروع هذا الوصف! شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين جعلته يعاني لأجلهم، يخاف عليهم، يحزن لحزنهم، ويحرص على هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين في توادّهم وتراحمهم بقوله:"مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".(رواه مسلم).
فهل من شفقة أعظم من أن يشعر الإنسان بآلام غيره كأنها آلامه؟!.
الشفقة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالخلق، فكان يشفق على الفقراء، ويحنو على الضعفاء، ويحتضن الأطفال، ويواسي الأرامل، ويخفف عن العُصاة بكلمات من نور.
قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" (رواه الحاكم وصححه الألباني).
ومن شفقته بأمته أنه كان يخبرهم أنه لولا خوف المشقة عليهم لأخر صلاة العشاء إلى ثلث الليل، وكان يدخل الصلاة ناويا إطالتها ويمنعه من ذلك شفقته على الصبي وأمه فيخفف الصلاة.
ويدل على شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ما ورد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ تَلا قَوْلَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبْراهِيمَ: {رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمَن تَبِعَنِي فإنَّه مِنِّي} (إبراهيم: 36) الآيَةَ، وقولَ عِيسَى عليه السَّلامُ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لهمْ فإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي"، وبَكَى، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، ورَبُّكَ أعْلَمُ، فَسَلْهُ ما يُبْكِيكَ؟ فأتاهُ جِبْرِيلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَسَأَلَهُ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بما قالَ، وهو أعْلَمُ، فقالَ اللَّهُ: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، ولا نَسُوءُكَ. (رواه مسلم). بل شفقته على أمته هي شعاره صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة حيث يكون شعاره يومها: "أمتي أمتي"، فيمُنُّ الله عليه بالشفاعة.
ولم تكن شفقته محصورة في الإنسان فحسب، بل امتدت حتى للحيوان، بل والجماد!.
فقد قال: "في كل كبدٍ رطبةٍ أجر". (رواه البخاري).ويعني: في كل كائن حي ترحمه وتُحسن إليه، لك أجر.
وحين رأى جملًا يئنّ من التعب، قال صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله في هذه البهائم المعجَمة" (رواه أبو داود).
من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمذنبين
لم تقتصر شفقته صلى الله عليه وسلم على الطائعين، بل امتدت لتشمل العصاة المذنبين، فقد جاءه شابٌ يستأذنه في الزنا، فثارت نفوس الصحابة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزجره، بل خاطبه بشفقة، وقال له:
"أترضاه لأمك؟" فقال الشاب: لا، جعلني الله فداءك!...وفي نهاية الحديث معه دعا له، ومسح صدره، وقال:
"اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه"(رواه أحمد)، فخرج الشاب وليس شيء أبغض إليه من الزنا.
وهكذا يكون أثر الشفقة في تغيير القلوب.
الشفقة عند السلف الصالح
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلًا رقيق القلب، إذا صلى بالناس لا يكاد يُسمَع صوته من كثرة البكاء. وكان يحمل الطعام لأرملة عمياء كل صباح، دون أن تعرف من هو.
وقال الحسن البصري رحمه الله:
(المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس أهلها، للناس حال وله حال. الناس منه في شفقة، وهو من نفسه في شفقة).
وكان عمر بن عبد العزيز يبكي إذا رأى فقيرًا أو سمع عن مظلوم، ويقول:(كيف أنام وقد علمت أن في أمة محمد من هو جائع أو مظلوم؟).
أين نحن من الشفقة اليوم؟
كم من محتاج ينتظر كلمة طيبة، أو صدقة في السر، أو زيارة تُحيي قلبًا مكسورًا!
كم من أم مكلومة لا تجد من يحنو عليها أو يمسح دمعتها، أو يتيم مكسور لا يجد من يكفله ويعينه على مشاق الحياة، أو مسكين مهان لا يجد ما يشبعه أو يشبع أولاده!
إن الشفقة قد لا تكلّف شيئًا، لكنها تصنع فرقًا كبيرًا في حياة الناس.
وقد قال ابن القيم رحمه الله:
(الرحمة والشفقة أصل كل خُلُقٍ كريم، ومتى نُزعَت من القلب، نزع الخير كله).
كيف نُحيي الشفقة في أنفسنا؟
1. تذكّر رحمة الله بك رغم تقصيرك.
2. لا تحتقر أحدًا مهما بدا ضعيفًا أو مذنبًا.
3. مدّ يدك قبل أن يُطلب منك.
4. احفظ لسانك من جرح الآخرين، فالكلمة سهم.
5. ازرع الرحمة في بيتك وأولادك.
6. ادعُ للناس بالخير حتى لمن أخطأ بحقك.
ختامًا...
الشفقة نورٌ من الله، لا يضعه إلا في قلوبٍ عظيمة.
إن كنت تشفق على الناس، فاعلم أن الله يراك أهلاً لرحمته.
فكن ممن قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:
"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه الترمذي).